الابتكار الاجتماعي
التشويش

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 13

التشويش

   عبد الرحمن بن عبد الله الشقير

كان الإنسان يعيش حياته وهو محاط بكمية أوهام اجتماعية، وهي تبدو للمجتمع إما أنها مقدسة أو لا يؤبه لها، لصغرها وانغراسها في سلوك الحياة اليومية، وقد تحدث فرنسيس بيكون في كتاب "الأورجانون الجديد" عن أربعة أنواع من هذه الأوهام، هي: أوهام القبيلة، التي ترى أن حواس الإنسان هي المقياس لكل شيء، وأوهام الكهف، التي ترى أن العادات الاجتماعية هي المقياس الحقيقي، وأوهام السوق، التي يكون فيها الإنسان رهيناً للصور الذهنية ومكبلاً بالمعاني المرفقة بالكلمات السائدة، وأوهام المسرح، وهي العلوم التي تنتج أوهاماً وتكتسب القطعية بالتصديق الساذج دون تمحيص ونقد.

وظهر بعد ذلك "النظرية الجذمورية"، التي أسس لها فلسفياً جيل دولوز وفيلكس غوتاري، وهي ترى أن دراسة الحياة الاجتماعية ينبغي أن تعنى بالأشياء الصغيرة والكثيرة، أكثر من فكرة السبب الواحد والنتيجة الواحدة، و(الجذمور) مشتقة من تحليل النباتات التي لا ساق لها ولا جذور، وإنما تنبث صغاراً وتملأ المكان، مثل النجيليات "الثيّل".

ولكن هذه النظريات لم تنل حظها من الاهتمام والتفعيل، إلا بعدما خطفت أنظارَ الباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية أخيراً جهودُ علم "الاقتصاد السلوكي" و"البصائر السلوكية"، وهي منهج علمي يسعى لفهم سلوك القياديين والناس العاديين واتخاذهم قراراتهم في حياتهم اليومية، والآليات غير المرئية التي تتأثر بها، وقد سبق أن كتبت أكثر من مرة عن استخدامات الوكز في التنمية وفي الوقاية من الجريمة، وآن الأوان لاستكمالها بالتشويش.

ويبدو أن ازدهار هذا العلم كان نتاج السؤال الأزلي: هل سلوك الإنسان وقراراته عقلانية وواعية أم لا؟ وإذا كانت متحيزة، فما مقدار تحيزاته في اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام؟ وهل يؤدي ذلك إلى النسبية الأخلاقية؟ بمعنى أن الأخلاق تتغير بتغير المكان والزمان والبيئة والظروف، ثم ما أسباب تأثير المواقف الصغيرة جداً على اتخاذ قرارات حاسمة وكبيرة دون إدراك الرابط بينهما؟ وكيف يمكن تجاوز هذه المعضلة إذا كان سلوك الإنسان لا متناهياً ويصعب حصره وتصنيفه، أو استقراره في المجتمع؟

ومن ثم فإن كل من يحذِّر من أخطاء، فهو واقع فيها بشكل من الأشكال وفي سياقات أخرى، ولذلك تحتاج هذه المقالة إلى أن نكون في مواجهة مع تفاصيل الأشياء ومراقبتها، وإلى التأمل والهدوء ومراقبة الذات وتقييم الأحكام عليها، قبل تقييم الآخرين.

وقد أكدت نتائج البصائر السلوكية مرة بعد أخرى قصور العقل البشري، وأن عدم العقلانية هي التي تؤثر في سلوك 90% من البشر تقريباً، وهم الذين يتخذون قراراتهم بعفوية وآلية وتلقائية، تبعاً للقوالب الاجتماعية الجاهزة، بدءاً من الذين يتلمسون اتجاه الناس ليسيروا خلفهم، وهم عادة ممن يبحثون عن الأكثر مبيعاً، ويطلبون مشورة البائع ليختاروا الأكل أو اللبس المناسب، إلى الأحكام القضائية والتحقيقات الجنائية والتشخيص الطبي، وقرارات الاستثمارات الضخمة، والقرارات الأمنية والعسكرية والإدارية التي تؤثر في حياة الشعوب.

وقد حصد جوائز نوبل في الاقتصاد كثير من علماء الاقتصاد السلوكي، لقدراتهم على تفسير السلوك البشري وآليات اتخاذ القرار، مثل: هربرت سيمون 1978 (نظرية اتخاذ القرار)، وغاري بيكر 1992 (رأس المال البشري)، وجورج أكرلوف 2001 (نظرية سوق الليمون وأن البطالة أساس مشكلات الاقتصاد)، ودانيال كانمان 2002، وريتشارد ثالر 2017 (نظرية الوكز)[1]، لاهتمامهم بتأثير قرارات الإنسان اليومية في الاقتصاد.

ونجد في آخر الجهود أن دانيال كانمان يتقدم خطوة للأمام بنظرية حديثة، ويؤكد على أن الإنسان محاط بعوامل التشويش[2] Noise، لأن عنصر التشويش يكمن في التفاصيل الصغيرة جداً والتي تبدو أنها لا دخل لها في اتخاذ القرار، ولكنها تؤثر سلباً في قرارات الإنسان العادي والقيادي والمهني وأحكامه، وهو يظن أنه حيادي ويتصرف وفق خبراته وعلمه.

وأكد على أن التشويش قد يكمن في هزيمة الفريق المفضل وعدم العشاء الجيد والخصام مع الزوجة، فكلها عوامل نفسية تنعكس على القرارات، رغم أنها وقعت البارحة، وأن عدم الفطور، أو حدوث مشكلة تقنية بسيطة، أو اتصالاً غير مرحب به يؤثر في اتخاذ القرار، كما أن أحكام الصباح تختلف عن أحكام بعد الظهر وهكذا.

ووسع من تطبيقات نظرية التشويش في سياقات القضاء والتحقيق الجنائي والأطباء وشركات التأمين، وكثير من الحقول التي يصدر المتخصصون فيها قرارات يومية بانتظام، وكانت النتائج تأتي متسقة وتؤكد على انعكاس التشويش الصغير على القرارات الحاسمة.

وأثبت دانيال وفريقه أن التشويش تسبب في انحياز العدالة، وإضاعة المال، والإضرار بالجسد والصحة، وأنه كما يقال: حيثما يكون هناك قرار، فمعه تشويش بداخله.

وتؤكد نتائج البصائر السلوكية على أن كل ما يبدو لنا أنه مهني وعلمي وطبي وإداري وقضائي، فهو يتحرك بعوامل نفسية واجتماعية في جوهره، وهذه نتائج خطيرة تدل على هيمنة النسبية الأخلاقية، مما يبعد المسافة بينها وبين الأخلاق المطلقة، ويضعف مستويات الثقة في بيئات المؤسسات العدلية والطبية والأكاديمية والإدارية وغيرها، وغالباً ما تقود النسبية الأخلاقية للعدمية.

فهذه أخطاء يمكن ملاحظتها في الحياة المهنية والشخصية للناس، وإحدى عواقب تلك الأخطاء الإدراكية هي الاختلاف الموجود في أحكام الناس لنفس الحدث، على الرغم من أن مستوى معيناً من التباين قد لا يكون مزعجاً لكثير من الأشخاص، فمن المرجح أن يكون أكثر صعوبة إذا زاد[3]، وتكاد تكون ظاهرة اختلاف تقييم الناس لنفس الحدث هي المستوى الأخلاقي السائد.

ويمكن إضافة عنصر "الثقة" ودوره الخطير في التشويش على اتخاذ كثير من القرارات الحاسمة، وذلك لأن تأثير عنصر الثقة في التعامل المؤسسي يعطل الدفاعات العقلانية والمنطقية والنظامية، وقد يقع كثير من المسؤولين والقيادات تحت تأثير منح الثقة لأشخاص غير مؤهلين للثقة.

ورغم قدرة التقنية على الإسهام في تحييد كثير من قرارات الإنسان وضبط الجودة، إلا أنه من المتوقع أن يسهم "الذكاء الاصطناعي الفائق" في زيادة تحييد الأحكام والقرارات، ويتولى تحليلها وإصدارها بدقة وسرعة، وهي إسهامات تقلل نسبة التشويش، ولكنها لا تنهي الأزمة، لأنها تعتمد على جودة البيانات، مما يبقي أهمية منح التشويش اهتماماً أكبر وأخذه بجدية في عالم سريع التغير والتشويش.

أخيراً تعكس نظرية "التشويش" جهود أكثر من ثلاثين عاماً مدعمة بنتائج مئات الدراسات الميدانية، والتي تؤكد على أن هذا العصر ينبغي أن يكون عصر الانتباه لتأثير التفاصيل الصغيرة في القرارات الكبيرة، وأيضاً في تقييد الثقة المفرطة في عمليات اتخاذ القرار في الحياة وفي العمل.

 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...